مقال خطير لمحمد عبد الحكم دياب في القدس العربي
إشكالية العلاقات المصرية الامريكية وظلالها على مشروع 'التوريث'!
من الثوابت المستقرة في التجربة السياسية المعاصرة أن التبعية مصدر للتخلف والضعف والمذلة.. لم تحقق دولة تقدمها السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي إلا بالاعتماد على النفس بعيدا عن التبعية، وإن كان هناك استثناء في اليابان وكوريا فهذا لا ينفي القاعدة، ويؤكد على ظرف خاص لها كدول تقع على تخوم كيانات ومناطق تمثل خطرا على النمط الغربي في التنمية والتقدم..هاتان الدولتان وقعتا على تخوم الاتحاد السوفييتي السابق وحدود التنين الصيني الأصفر بما لديه من إمكانيات وقوة يصعب شلها بالعمل العسكري وحده، ومن هنا نشأت الحاجة إلى سياج مبهر للناظرين وإلى مركز وثوب لكبح المارد الآسيوي الذي أفاق من سباته. والدول التي تقدمت حققت تقدمها بتحررها واستقلال إرادتها وخطط تنميتها الجادة وقدراتها البشرية المتميزة، وبغير ذلك يحدث التراجع والانهيار،
ولنا في روسيا ومصر مرجع يؤكد على هذا.. روسيا انهارت بسقوط الاتحاد السوفييتي، وبالرضوخ للشروط الغربية، ولم تسترد قوتها إلا حين تخلصت من التبعية.
ومصر سقطت بانكفائها وفقدانها لإرادتها.. انهارت معيشيا وتراجعت قدرتها في التأثير، وسلمت قيادها لواشنطن وتل أبيب.. وبين فترة وأخرى تغطي على هذا الوضع بتصريحات لا علاقة لها بحقائق القوة على الأرض.. وبينما حط عمر سليمان رحله في واشنطن.. يسألها التخفيف من شروطها المتعلقة بتشكيل حكومة توافق وطني فلسطينية. ويثبت أن القرار المصري بشأن فلسطين وغيرها لا يمكن إلا أن يكون مستنسخا من قرار أصيل يصدره البيت الأبيض،
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن قرار السلطة الفلسطينية..
بينما كنا نتابع ذلك خرج علينا المتحدث الرسمي باسم حسني مبارك مصرحا بأن تخفيض المعونة الأمريكية إلى النصف والإبقاء على المعونة العسكرية كما هي تم 'دون استشارة مصر في هذا التخفيض للمعونات الاقتصادية' ووصف القرار الأمريكي بأنه 'انفرادي ارتبط بشروط ترفضها مصر'.. منذ متى يستطيع التابع نقض قرار المتبوع، وهذا ما جبلت عليه الإدارة المصرية مع واشنطن وتل أبيب ومجموعة عواصم المنظومة الغربية الكبرى، وإلا ما ذهب رئيس جهاز مخابراته إلى واشنطن طلبا للتخفيف والرأفة!!، ولكان قد منع ابنه من زيارة الولايات المتحدة..
مواقف بدت متناقضة إلا أنها لا تخرج عن السياق.. ما يقال للاستهلاك المحلي غير ما يجري على أرض الواقع.
إذن ماذا كان يفعل جمال مبارك، الحاكم الفعلي لمصر في واشنطن الأسبوع الماضي؟، ولماذا أحيطت اجتماعاته بالسرية..
إذن ماذا كان يفعل جمال مبارك، الحاكم الفعلي لمصر في واشنطن الأسبوع الماضي؟، ولماذا أحيطت اجتماعاته بالسرية..
لم يعرف منها إلا ما تسرب عن اجتماعه بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وما شاهده الناس في حديثه إلى قناة السي إن إن؟.. والمتابع لواقع الحال يمكنه استنباط كثير من خبايا هذه العلاقة غير المتكافئة. خاصة في مرحلة زادت فيها شكوك الإدارة الأمريكية في قدرة مبارك الابن على وراثة منصب الأب، وقد أتيحت له فرصة حكم مصر.. بدأها حاكما من الباطن إلى ان أضحى حاكما فعليا في السنوات الأخيرة.. ونتيجة لذلك استشعرت أوساط أمريكية خطرا يتهدد المصالح الأمريكية في مصر. فالابن المرفوض فيما يشبه الإجماع، لا يجد نصيرا إلا منظومة الفساد المتوغلة في ثنايا وخلايا الاقتصاد والمال والحكم والإدارة، وعدم كبح جماح هذه المنظومة يبقي على الوجه القبيح والمتوحش للسياسة الأمريكية، لهذا فإن هذه الأوساط لا تتعجل 'التوريث' وتفضل استمرار حسني مبارك في الحكم، وكان من المتوقع أن يتركه العام الماضي حين بلغ الثمانين من العمر، والنتائج المأساوية لحكم الابن زادت من الاحتقان ومن احتمالات فلتان الأوضاع وقللت من احتمال ترك الأب للحكم في المدى المنظور، وهذا بدوره ترك بصماته على مخطط 'التوريث'، الذي إذا لم يتم في حياة الأب فقد لا يرى النور أبدا. وتبعا لذلك بدأ الحديث عن عمر سليمان يتردد في الأروقة الأمريكية والغربية والصهيونية.. وطرح اسمه قد يبدد الغموض الذي يلف موقف القوات المسلحة، ويفسره البعض بأنه رفض لجمال مبارك. فهو لم يؤد الخدمة العسكرية، فضلا عن ازدواج جنسيته التي تجعل منه شخصا غير مناسب كقائد أعلى للقوات المسلحة بحكم المنصب.. وهذه المعضلة دفعت إلى التفكير في صيغة تجمع بين رجل المخابرات القوي عمر سليمان.. الموالي للأب.. وجمال مبارك.. خلال مرحلة انتقالية تتغير فيها الموازين لصالح الابن، وهو أمر صعب التحقيق. بجانب أن عمر سليمان قد لا يقبل بدور 'المحلل'.
ولذا لجأ الابن إلى مشروعات وهمية تدغدغ مشاعر الفقراء، كمشروع تطوير الألف قرية الأكثر فقرا الدعائي.. يتبناه مع مجموعته من السماسرة والمحتكرين المهيمنين على القرار. وهم لا يخفون عداءهم للشعب، ويحقرون دوما من شأن الفقراء ومتوسطي الحال، وإلا ما دمروا التعليم وحرموهم من العلاج المجاني وما سمحوا لأنفسهم بانتزاع أراضيهم البسيطة وتصفية مصانعهم.
والدافع وراء زيارة واشنطن هو قلق متبادل بين القاهرة وواشنطن حول مستقبل الحكم، بعد أن أصبح شأنا أمريكيا خالصا،
والدافع وراء زيارة واشنطن هو قلق متبادل بين القاهرة وواشنطن حول مستقبل الحكم، بعد أن أصبح شأنا أمريكيا خالصا،
ودور كل منهما في صياغة البديل، والتمكن من التعرف على توجهات الإدارة الجديدة عن قرب.. وقد ا لتقى جمال مبارك أعضاء من الكونغرس وتحدث إلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واجتمع بجون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، ولم يكن فيما قاله وقالوه جديد، وقد يكون الجديد ما ورد في لقاء السيناتور هوارد بيرمان صاحب التأثير الكبير في مجلس الشيوخ بالنسبة لمصر.. حيث أضفى على الزائر صفات ، من قبيل أنه ' شخص شديد الذكاء عميق الفهم فيما يتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية وعملية السلام، وهو أحد أهم المدافعين عن السلام في الشرق الأوسط، وعن استمرار التعاون الوثيق بين مصر والولايات المتحدة ' .. وهذه تزكية له في حكم مصر. والمعروف أن الابن أكثر قبولا في الأوساط الأمريكية والصهيونية من الأب.. لتكوينه الغربي الأمريكي، وانحيازه وتعاطفه الواضح مع المشروع الصهيوني، ومناهضته العنيدة للتحرر واستقلال الإرادة، والعبرة فيه ليست في حمل جنسية غربية غير جنسيته المصرية فحسب، إنما بالتوجه والثقافة والولاء.. فتأهيله الدراسي والمهني غربي الشكل والمضمون، وخبراته العملية والمهنية بريطانية أمريكية.. عبر المصرف الأمريكي (بنك أوف أمريكا) في القاهرة ولندن، ونشاطه العام بدأ برعاية أمريكية.. فآل غور الديمقراطي، نائب الرئيس الأسبق بل كلينتون.. هو الذي أشار بتأسيس المجلس ' الرئاسي الأمريكي ' ليجمع رجال الأعمال الأمريكيين والمصريين.. برئاسة جمال مبارك، ويعود لهذا المجلس الفضل في خلق البيئة المناسبة لمشروع 'التوريث'، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. ويبقى جمال مبارك ظاهرة أنكلو أمريكية، وهذا هواه، ومثله لا يلام. وكما يقولون ' الهوى غلاب ' والطبع يغلب التطبع.. واللوم يقع على الذين أقنعوه بهذا ' الزواج الكاثوليكي ' بالأمركة، وفصم عرى علاقته بالثقافة الوطنية والاجتماعية.. وأذكر أن مجلة ' بيزنس ويك ' الأمريكية ذكرت.. وهي تؤكد عمق انتمائه للثقافة والقيم الغربية.. ذكرت 'بانه لم يشاهد أن دخل مسجدا في حياته ' ، وكان ذلك قبيل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بأيام قليلة. هذا هو مصدر غربته ورفض الناس له.. وسر خوفه الدائم منهم، وأساس ميله إلى العمل السري.. ولا أعرف لماذا تذكرت حكاية ' المطار السري ' التي يتندر بها المصريون عن محطة للمركبات بالقرب من قاعدة جوية، زمن الحرب مع الدولة الصهيونية، وهي إن لم تكن مكشوفة للعيان إلا أنها عرفت بموقعها وهو 'المطار السري'.. ويكفي التعرف على الموقع لاستنباط طبيعته وتوقع ما يجري فيه، ونفس الشيء ينطبق على الزيارات السرية لجمال مبارك وعائلته لكثير من الدول.
وفي عصر هذا الابن.. الوفي للثقافة والقيم الأنكلو أمريكية، اضطر المصريون مقاضاة وزارة التعليم لسماحها بتدريس كتاب للغة الانكليزية يصف اللغة الوطنية ( العربية ) بأنها لغة قبيحة، في وقت تمتعت فيه اللغة الانكليزية ( الأمريكية الكندية ) بحصانة لا تتمتع بها اللغة العربية، ومثله لم يكن في حاجة إلى تقديم أوراق اعتماد جديدة للإدارة الأمريكية، فهو من 'عظام الرقبة'، كما يقولون. وهناك من رأى ضرورة للاقتراب من الإدارة الجديدة، لإزالة انطباعة استقرت لدى أوساط غربية عن ميله الغريزي للمحافظين الجدد وللمسيحية الصهيونية، وحاجته إلى إظهار استيعابه للمتغيرات الجديدة التي بدأت تؤثر على الموقف من 'الإرهاب'، والتحفظ الذي بدأت تبديه أوساط غربية تجاه استخدام 'الإسلام السياسي' فزاعة لابتزاز الغرب. وبروز مؤشرات عن إمكانية الاتصال بحماس، وفتح قنوات مع حزب الله وإيران .. وهناك أجنحة محسوبة على 'الإسلام السياسي' تتعاون وتشارك في 'العملية السياسية' في الصومال و العراق وأفغانستان، والإدارة الجديدة تريد الخروج من ورطتها بأقل قدر من الخسائر، بجانب أن الأزمة الاقتصادية أخذت تعيد الاعتبار لتدخل الدولة والعودة لقوانين الحماية، وهو شيء لم يتخيله مبارك الابن، وهذا قد يضطره لإعادة بناء الهيكل الإداري للدولة بعد أن هشمه وأجهز عليه، واستعاض عنه بإدارة السماسرة والمضاربين والاحتكاريين بالتعاون مع الأمن والشرطة.
كانت مغازلة الإدارة الجديدة قد بدأت بإطلاق سراح أيمن نور، وأخذ هذا الأمر على عاتقه.. فلو تركه للأب لبقي على عناده وما تمكن من زيارة واشنطن، وتم الإفراج بما لا يهدد مشروع 'التوريث'.. كان إفراجا صحيا. لا يسقط العقوبة، ويبقيها حائلا بين نور ومنافسته في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومشكلة الملعب الأمريكي ازدحامه باللاعبين المصريين.. جماعات حقوقية يمينية تراهن على دور أمريكي يغير من بنية الحكم، وأقباط في المهجر يستقوون به حتى لو تم هدم المعبد على رؤوس الجميع، وسعد الدين ابراهيم وعلاقاته الأمريكية وارتباطته بالنخب العربية والاسلامية.. الليبرالية وغير الليبرالية.. وتحريضه على ربط المعونة بتغييرات في بنية النظام.. لاعبون معروفون، وقد يكون هناك آخرون متربصون على طريقة 'الخلايا النائمة'، وأفئدة كل اللاعبين معلقة بالبيت الأبيض. والملعب يتسع لكل هؤلاء تحسبا للمفاجآت، ومع كل هذه التعقيدات وغيرها تبدو الإدارة الأمريكية مضطرة إلى تغليب خيار 'التوريث' خوفا من انفجار غير مضبوط على بوصلتها، وتأمل أن يمرر مشروع 'التوريث' بسلام، وترى أنها قادرة على إقناع اللاعبين بالتعاون رغم ما بينهم من شقاق، وأن هناك إمكانية لمشاركتهم في الحكم والثروة والنفوذ، ونصيحتها لهم ألا يتحولوا إلى عبء عليها، ويقللوا من استفزاز الرأي العام. ومثل هذا الاستفزاز يعرض المصالح الأمريكية والصهيونية للخطر، وهو ما لا يتحمله البيت الأبيض في هذه المرحلة!
كانت مغازلة الإدارة الجديدة قد بدأت بإطلاق سراح أيمن نور، وأخذ هذا الأمر على عاتقه.. فلو تركه للأب لبقي على عناده وما تمكن من زيارة واشنطن، وتم الإفراج بما لا يهدد مشروع 'التوريث'.. كان إفراجا صحيا. لا يسقط العقوبة، ويبقيها حائلا بين نور ومنافسته في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومشكلة الملعب الأمريكي ازدحامه باللاعبين المصريين.. جماعات حقوقية يمينية تراهن على دور أمريكي يغير من بنية الحكم، وأقباط في المهجر يستقوون به حتى لو تم هدم المعبد على رؤوس الجميع، وسعد الدين ابراهيم وعلاقاته الأمريكية وارتباطته بالنخب العربية والاسلامية.. الليبرالية وغير الليبرالية.. وتحريضه على ربط المعونة بتغييرات في بنية النظام.. لاعبون معروفون، وقد يكون هناك آخرون متربصون على طريقة 'الخلايا النائمة'، وأفئدة كل اللاعبين معلقة بالبيت الأبيض. والملعب يتسع لكل هؤلاء تحسبا للمفاجآت، ومع كل هذه التعقيدات وغيرها تبدو الإدارة الأمريكية مضطرة إلى تغليب خيار 'التوريث' خوفا من انفجار غير مضبوط على بوصلتها، وتأمل أن يمرر مشروع 'التوريث' بسلام، وترى أنها قادرة على إقناع اللاعبين بالتعاون رغم ما بينهم من شقاق، وأن هناك إمكانية لمشاركتهم في الحكم والثروة والنفوذ، ونصيحتها لهم ألا يتحولوا إلى عبء عليها، ويقللوا من استفزاز الرأي العام. ومثل هذا الاستفزاز يعرض المصالح الأمريكية والصهيونية للخطر، وهو ما لا يتحمله البيت الأبيض في هذه المرحلة!
( تعليق مني شخصيا على الجملة الاخيرة : ( أعتقد أن السيناريو الذي تعده أمريكا لن يكون بهذه السطحية 00 بل سيأتون بقائد جديد من داخل هذا النظام - عسكريا أو مدنيا - يكسب شعبيته بإقصاء مبارك الإبن الذي أجمع الشعب المصري على كراهيته وكراهية ابيه وحزب أبيه وعصابة رجال الأعمال الذين أفسدوا مصر - وستتعاظم شعبية هذا القائد الجديد بذبح جمال وعلاء مبارك وعصابة رجال المال المقربة لآل مبارك - وهذا نفس ماعمله السادات حين مشى على طريق عبد الناصر بالأستيكة - )
تعليقات