نظرة في كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) للأديب الأستاذ محمود شاكر رحمه الله

أثار كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا بنيويورك عام 1987م ضجة كبرى في الأوساط العلمية والأكاديمية في الغرب والشرق .
وقد زادت المراجعات والعروض التي تناولت هذا الكتاب على العشرات وبلغات مختلفة .
كما ترجم الكتاب إلى لغات أوروبية عديدة .
وترجمه إلى العربية كمال أبو ديب "الشاعر الحداثي" بلغة عربية حداثية .
بينما ظهر كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر العالم المسلم الحائز على جائزة الملك فيصل في الآداب عام 1403هـ (1983م) (المتنبي : رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) عام 1407هـ (1987م) ، وقد تناول الأستاذ شاكر في مقدمته الاستشراق
لا شك أن إدوارد سعيد قد حقق سبقاً باللغة الإنجليزية في تعرية الاستشراق والكشف عن فلسفته وأهدافه وأساليبه وبخاصة خدمته لأهداف الإمبريالية والاستعمار وتكريس نظرة التعالي والتفوق التي ينظر بها الغرب إلى الأجناس الأخرى جميعها وبخاصة العرب والمسلمون .
أما كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر فهو كتاب أكثر من رائع وتستحق القضايا التي ناقشها في هذا الكتاب الذي لم يتجاوز المئتين وخمسين صفحة من القطع الصغير مجلدات لمناقشتها ..
وقد أشار المؤلف نفسه إلى كتاب محمد جلال كشك (ودخلت الخيل الأزهر) لمن أراد التوسع في بعض الجوانب .
وأود هنا أن أشير إلى مسألة مكانة العلماء في الأمة في العصر الحديث قد ناقشها الأستاذ محمد قطب في كتابه (قضايا معاصرة) .
وقد اشترك إدوارد سعيد والأستاذ محمود شاكر في بعض الآراء من عدم اقتصار الاستشراق على الباحثين والعلماء المنقطعين لدراسة علوم الشرق ولغاته وتاريخه بل عدَّا منهم الرحّالة والمنصرين والتجار والعسكريين والسياسيين
ولئن كان تركيز إدوارد سعيد على مسألة النظرة الفوقية المتعالية للاستشراق في دراسة الشعوب الأخرى فقد كان تركيز الأستاذ محمود على قضية وأد الشمال المسيحي (النصراني) للصحوة الإسلامية التي أوشكت أن تقود العالم الإسلامي إلى الوقوف موقف الند أمام الغرب النصراني .
---
 وكانت خطة نابليون تتلخص فيما يأتي :
أولاً : توحيد النشاط إلى المشايخ الكبار لإقناعهم بأن هدف الحملة الفرنسية هو محاربة المماليك وظلمهم وجورهم الذي تعرض له المصريون والرعايا الفرنسيين …

ثانياً :  إثارة الأقباط ضد المسلمين وأن الحملة الفرنسية جاءت لإعلاء راية المسيحية ؛ وإن لم ينجح هذا التدبير تماماً .

ثالثاً :  محاولة تدجين العلماء ، وقد نجح جيش الاحتلال بتدجين مجموعة منهم وقد "خدعهم حسن استقباله لهم وتوفيرهم خداعاً لهم بمراهنته ومكره ودهائه"
رابعاً :  تفقير الشعب بالاستيلاء على ثرواته من خلال الضرائب والأتاوات بالإضافة إلى التدمير والتخريب المتعمد
خامساً :  سرقة الثروة الفكرية للبلاد حيث سطوا على ذخائر البلاد من مخطوطات ما تزال خزائن كتبهم تشهد على ذلك لوأد الصحوة 
وبدأت فرنسا في تنفيذ سياستها التي رسمها المستشرقون بمكر ودهاء لإفساد حياة المسلمين والقضاء على يقظتهم، وكان مما فعلوه ما جاء في رسالة نابليون إلى خليفته على مصر أن يبعث إليه خمسمائة أو ستمائة من المماليك أو من العرب ومشايخ البلدان ويرسلهم إلى فرنسا "يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا .
ولما يعودون إلى مصر يكونون لنا حزب أسماه "حزب فرنسا" يضم إليه غيرهم …
" (ص158) ؛ وأما الطلب الثاني فهو إرسال جوقة تمثيلية "لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد" . (ص159) 

وجاء محمد علي وقدّم لهم أكثر من هذا بكثير فحارب العلماء أولاً حتى حطم هيبتهم لدى الجماهير وسلطتهم عند الحكام . وكان الاستشراق قريباً من محمد علي متمكناً لديه حتى استطاع أن يحقق نجاحاً كبيراً في "عزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمّة، وأوغر صدر هذا الجبّار، ومكن في قراءة قلبه بغض الأزهر وطلبة العلم المجاورين فيه" . (ص201 – 202)

وكانت الخلوة التالية تنفيذ رغبات نابليون بإرسال بعثات من أبناء مصر ولئن كانت سابقاً من المماليك أو شيوخ العرب فهم الآن نجباء أبناء مصر، وبدأت البعثات من عام 1242هـ (1826م) حتى عام 1264هـ (1847م) تحت إشراف جومار (المستشرق الفرنسي) حيث يقضي هؤلاء المبتعثين سنوات قلائل يعودون إلى بلادهم ليتسلموا المناصب والأعمال وهم لم يحصلوا على علم حقيقي ولكنهم بالتأكيد يعودون بعد غسيل دماغ جيد، وقد أوضح الأستاذ شاكر حالة رفاعة الطهطاوي توضيحاً جيداً .
لم يكتف الفرنسيون بالبعثات بل أسسوا مدرسة الألسن لتكون نافذة لإدخال فكرهم وثقافتهم عن طريقها … ولما لم يتوفر من المصريين من يدرس جميع العلوم فيها فقد جاء المستشرقون ليتولوا هم التعليم بل ظل هذا الأمر قائماً حتى بعد مائة سنة وزيادة في جامعة الملك فؤاد (القاهرة) .

هذه هي صور الاستشراق "حامل هموم الشمال المسيحي" كما قدمها لنا الأستاذ محمود شاكر في هذا الكتاب القيِّم 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دعاء أصحاب الكهف الجامع لخيري الدنيا والآخرة "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " ...

سندوتش مكرونة مع ابراهيم عيسى

وصية الحسن البصري لعمر ابن عبد العزيز .