مقال خطير لهويدي

في مرحلة إطفاء الأنوار - فهمي هويدي

لا نستطيع أن نفترض البراءة في إجراءات إغلاق القنوات الفضائية التي تتابعت في مصر خلال الأيام الأخيرة.
كما أننا لا نستطيع أن نصدق ادعاءات الغيرة على التعاليم الدينية والأخلاق العامة التي تذرع بها المسؤولون عن إصدار قرارات الإغلاق، لأن الكثير مما أخذ على تلك القنوات إذا اعتبر معيارا وأخذ على محمل الجد، فإن من شأنه أن يؤدي إلى إغلاق التلفزيون الرسمي الذي تشرف عليه الحكومة ويخضع لتوجيهات وزير الإعلام. ولولا الحياء لذكرت بعضا من المشاهد التي يبثها التلفزيون الحكومي والتي ترشحه للانضمام إلى قائمة القنوات المحظورة أو تلك التي وجهت إليها الإنذارات.

ولا أريد في هذا الصدد أن استشهد ببعض البرامج الهابطة التي قدمت في شهر رمضان، لكني أذكر أنه قبل أيام قليلة فتحت التلفزيون على القناة الثانية وشاهدت لقطة من فيلم ظهرت فيها ثلاث ممثلات كان موضوع الحوار بينهن هو أحضان الرجال وأهميتها بالنسبة للمتزوجة وغير المتزوجة.

لم يعد سرا أن هذه الغيرة المفاجئة على الأخلاق والتعاليم والسلام الاجتماعي أريد بها تغطية توجيه رسالة أخرى تدعو الجميع إلى الكف عن المشاغبة السياسية، وتقيد حركة الفضائيات في تغطية أحداث الشارع المصري، فضلا عن الانتخابات المقبلة، التي تعرف أن التزوير يشكل أحد أهم عناوينها.
ورغم أن الجميع تسلموا الرسالة. إلا أن ذلك لا يمنعنا من تسجيل ملاحظتين هما:

< الأولى أن قرارات الإغلاق جاءت تعبيرا عن هيمنة «عقلية المطرقة»، التي لا تعرف سوى البتر والقمع ولا تعطي مجالا لا لأعمال القانون ولا لإجراء الحوار. وهما الوسيلتان المتحضرتان للتصويب والمساءلة والمحاسبة. ومن الواضح أن كفة خيار القمع هي التي رجحت، وأن خيار التفاهم لم يكن مطروحا.

< الثانية أن الإجراء الذي كان مطلوبا قبل البتر تم بعده. ذلك أن الجهة التي طلب منها إصدار الإغلاق (هيئة الاستثمار) استدعت المسؤولين عن القنوات التي حظرت، خصوصا تلك المعنية بالشأن الديني، وطلبت منهم التوقيع على خمس نقاط هي:
أن تكون نسبة البرامج الدينية بحد أقصى 30٪ من المواد التي يتم بثها
ــ ألا يظهر في تلك البرامج إلا العلماء الذين يحملون شهادات إجازة في تخصصاتهم
ــ ممنوع الخوض في الشأن المسيحي
ــ ممنوع التعرض للمذهب الشيعي
ــ البرامج السياسية والنشرات الإخبارية محظورة.
وإلى جانب ذلك طلب من كل واحد منهم أن يقدم إلى هيئة الاستثمار بصفة منتظمة خريطة الدورة البرامجية وأسماء مقدمي البرامج للتثبت من التزام القنوات بما تم الاتفاق عليه.

وفي الوقت ذاته تم استدعاء بعض المسؤولين عن تلك القنوات إلى جهاز أمن الدولة، وطلب منهم استبعاد أسماء بذاتها من الظهور على شاشات التلفزيون، كما اقترحت عليهم أسماء معينة (مقبولة أمنيا) لكي تتولى تقديم البرامج أو المشاركة فيها.

إذا صحت هذه المعلومات التي استقيتها من مصادر موثوقة فهي تعني أن التفاهم المرجو لم يأت فقط بعد البتر ولكنه أيضا اتخذ صيغة الإذعان والإملاء. ورغم أن بعض النقاط التي طلب من مديري القنوات الالتزام بها تبدو منطقية ومعقولة، خصوصا تلك التي تعلقت بسد ذرائع الفتن الطائفية أو المذهبية، إلا أنه ليس مفهوما مثلا أن تكون لدينا قناة مخصصة بالكامل للرياضة في حين تطالب القنوات الدينية بألا تزيد برامجها الدينية على 30٪ فقط.

كما أنني أستغرب حظر التطرق إلى الشأن السياسي وبث الأخبار على تلك القنوات. وهو ما يفهم منه أن الجهات الرسمية تريد أن يكون بث تلك المواد حكرا على التلفزيون الرسمي وحده.
ثم إن استغلال جهاز أمن الدولة ذلك الظرف لحجب بعض المتحدثين والمشاركين وفرض آخرين من الموالين والمعدين سلفا، هذه الشواهد تدل في مجموعها على أننا بصدد خطوة تستهدف «تأميم» القنوات الخاصة، وإخضاعها لسقف ومواصفات التلفزيون الرسمي.
وإذا أضفت إلى ذلك مجموعة الإجراءات الأخرى المتعلقة بتقييد بث الرسائل على أجهزة المحمول وإحكام الرقابة على مكاتب الفضائيات العربية في مصر ومنع بعض البرامج الحوارية المسائية والانقضاض على جريدة الدستور، والضغوط المباشرة وغير المباشرة التي تتعرض لها صحف مستقلة أخرى، فستدرك أننا دخلنا إلى مرحلة إطفاء الأنوار وتجهيز المسرح لما لا يسر الخاطر أو يسمح بالتفاؤل
ــ ربنا يستر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دعاء أصحاب الكهف الجامع لخيري الدنيا والآخرة "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " ...

سندوتش مكرونة مع ابراهيم عيسى

وصية الحسن البصري لعمر ابن عبد العزيز .